الآراء والمواقف في ميزان التغيّر والتبدّل

أحمد وديع العبسي

0 1٬258

إن أقوى درجات الحرية والموضوعية هو أن تقول ما تعتقده اليوم، ثم إذا تبين لك خيرٌ منه، أن تعود وتقوله بكل شجاعة، دون أن تدع الحق أو أن تبرأ من الماضي، هذه الكلمات أحاول بها أن أختصر ما أود تفصيله في هذه المقالة، دون أن يعني ذلك أنني أمجد التذبذب والتقلب، ولكن الحق أحق أن يتبع، وفي ديننا الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها.

لا يبدو التاريخ منصفاً إن كرر نفسه، فاللاحق سيحظى بما لم يحظى به الأولون، فهو قد خبر التجربة وقام إليها فطوّرها، تجنب أخطاءها واستفاد من صوابها، والتاريخ لا يعيد نفسه، وإنما تتشابه صوره، على اختلاف معانيه وتفاصيله، والعاقل من تدبّر الماضي فأحكم أمر حاضره وعمل لمستقبله، وحياة كل فرد منّا هي تاريخه الخاص، أمسه ويومه وغده، فيتزود من الأول للذي يليه، ويعزم على ما بعده، وليس من الفطنة ثبات الرأي على وجه واحد مهما تغير الزمان وتبدلت الظروف، فالحياة متغيرة متبدلة، وما كان حقاً في زمن قد يغدو باطلاً في زمن آخر، فالانتفاضة على الحكام الظالمين مثلاً، لم تهيأ لها الأسباب قبل سنة ألفين وإحدى عشرة، فكانت تهوراً وجنونا وباطلاً ومهلكة، ثمّ لمّا تغير الزمان وتبدلت الأحوال وصارت فرصة النصر سانحة وتحركت عموم الجماهير وغدت الثورة مما يعي الناس ويتقبلون، صارت مواجهة الحكام الظالمين حكمة وواجباً وبطولة وشهادة ومجداً ومنجاة في الدنيا والآخرة بإذن الله. والآن كما أرى ويرى البعض مثلي لم تعد ذات جدوى وحلّت السياسة وآلة الحرب محل التظاهر والهتاف والسلمية، فصار التمسك بالثورة ومفهومها القديم هو التمسك بالوهم، وصارت محاولة استعادتها حمقاً وجنوناً وحماساً وفراغاً وطلباً لمجد الذات على حساب الناس …

ولا يلزم هذا الرأي الذي أراه غيري من الناس فلهم آراؤهم التي ربما يعللونها بأفضل مما فعلت أنا في عشرة مقالات على الأقل، وليس هذا مقام نقاش الثورة، وإنما جئت بها كمثال على ما أريد من ضرورة أن يتمتع المرء بمرونة العقل وصفاء السريرة، فلا تدفعه الحماسة والبذل والغيرة للتمسك برأي قد بدا بطلانه وأفل زمانه، وإنما يرى غيره ممّا يوافق وقته، وإن عادت أسبابه وتداعت دوافعه فيعود إليه دون تردد أو خوف، فالحق والحقيقة مبتغاه لا يمسكه عنهما موقف قديم ولا ملامٌ سقيم.

والذي يتبع الحقيقة معروف السمت واضح السجية، لا يشتبه مع منافقي السلطان، الذين يغيرون رأيهم كما يريد الحاكم من قوة أو مال، لا كما ينبغي لاتّباع الحق ومراعاة مقتضى الحال.

وليس العناد على شيء، إنما يخسر به الإنسان نفسه وغده، وربما من يلوذ به ويحتكم لرأيه، ولن تنفعه كلمات التبجيل على ثباته فيما سيخرب من حياته، كما لن تنقذه عواطفه من مآلات تصرفه، بل على العكس، إن ثبات المرء على ما يعرف من بطلان رأيه وتحول الحجة عنه إلى غيره هو ثبات على الباطل لا على الحق الذي صدر عنه أول مرة، وليس هذا يعني أن الحق متغيّر، ولكنه كالتاريخ لا يكرر نفسه، فالتاريخ حقٌ كامل في وقائعه مضى وانتهى لا يقبل التغيير والتبديل، ولكن الحياة تمضي ولا تستدير، ووسيلة الوصول إلى الحق حق مثله، ألم يقل الفقهاء “ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب” طبعاً ما لم تكن هذه الوسيلة مشتملة على باطل، فالباطل لا يُوصل إلى الحق، والحق لا يُبتغى بغيره.

والكثير من شباب اليوم تراه يخجل من منشور على وسائل التواصل إن تغيرت الظروف لغير ما توقّعوه فيسعون في إزالته، وهم في الأصل كانوا يتوقعون لا يتحرّون، أو تراهم يتمسكون بما قالوه ويدافعون عنه، ويشتمون تبدل الظروف والأزمان التي ذهبت بمقولاتهم إلى غير وجهة، وكأن من عادة الظروف والزمان الثبات لا التغيّر، أو كأن كلامهم نواميس الكون ومحركاته فلا يصح لها بطلان أو فشل أو خيبة. ويتابعهم في مثل ذلك كثير من السياسيين والإعلاميين وقادة الفكر والرأي، وبعض من يحسب على العلماء والفقهاء عافاهم والله وإيانا، بل ويهبون ليدافعوا عن أنفسهم وثباتهم على موقفهم إن ظهر منهم تغيّر لم ينتبهوا إليه هنا وهناك، بدل من أن يجعلوا التغيّر والتغيير سنة للناس ويعللوه لهم، ما دام لا يجانب الحق والصواب. فهو إما كان خطأً فالاعتراف به فضيلة، وإمّا كما قلنا تغيرت الظروف ولم يعد صالحاً، أو تغيرت زاوية النظر، أو أظهرت التجربة عقمه.

ويزداد نكران الصواب عند بعضهم والتمسك بالآراء والمواقف القديمة إذا كان السائل أو المحاور في الزمانين نفسه، أو إن عُرض الأمر في مناظرة أو منافسة يصعب عليهم خسرانها، أو كان صاحب الرأي أو الموقف شخصاً جماهيرياً قد حشد الآلاف حول رأيه، فتعزّ عليه نفسه أن يصارحهم بأنه كان مخطئاً أو أنه لم يقدر الأمور بالشكل الصحيح، أو أنه تهور وتحمّس، فيثبت على السراب وتظمئ الناس حوله، ويهيمون في فلاة الباطل، يتخبطون لا تعرف لهم وجهاً ولا وِجهة.

وخلاصة القول مرة أخرى: أن على الإنسان أن لا يتردد في قول ما يعتقده حقاً، وأن لا يخجل من ماضيه، فلولا هذا الماضي ما توصّل إلى الحق وإن كان خلافه وأمضى فيه أكثر حياته، حتى لو كان هذا الماضي كتاباً ألّفه أو موقفاُ أعلنه، وحقّ اليوم لا يعني دائماً بطلان الأمس، فكما قلنا لكل وقت حكمته وظرفه، ولكل مقام مقال.

والسلام …

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط