في سبيل الحق

أحمد وديع العبسي

985

لطالما شغلتني هذه العبارة، كيف نعرف أننا في سبيل الحق، وكيف نمضي ونحن مطمئنون، وكيف نحارب فنعلم أننا لا نقتل أخوة لنا فنقع فيما يفسد علينا دنيانا وآخرتنا، فالحق هو غاية المؤمنين، غاية الذين يعلمون أن هناك يوماً سيجتمع فيه الناس لتُعاد الحقوق لأصحابها.

أمّا الذين لا يؤمنون بالله ولا بذلك اليوم العظيم، فلا ضير أن لا يكون الحق غايتهم عندما يقررون القتال وخوض الحروب وقتل الناس، هم يفعلون ذلك في سبيل ما يقع تحت أيديهم، أو فيما يتخيلون أنه سيصير بين أيديهم، فيكون للخيال قوة تحملهم على بذل أنفسهم، قد لا تكون لمن يقاتل في سبيل الحق، إذا لم يكن اليقين من الحق حليفه يطمئن له و به.

ومن المؤلم في أيامنا هذه أن يكون أنصار الباطل أو الدنيا أو المصالح على اتساعها أشد عزماً وصبراً وبذلاً من أنصار الحق وقيمه العظيمة كالحرية والعدالة، وقد يكون مرد ذلك إلى الإيمان، فالأصل في الحق أنه وأغلب خواصه مبنيٌ على التجريد، لا يقع في العالم المادي إذا لم يقع معناه في الأرواح والقلوب والإيمان، أمّا الدنيا والمصالح، فتقع بمجرد وقوع أسبابها حقاً كانت أم باطلاً.

فالعلة إذا هي ضعف الإيمان واليقين، ضعف إيمان أصحاب الحق بحقهم، وضعف يقينهم من نصره وقدرتهم على نصرته، مما يورثهم تردداً وضعفاً يجعلهم غالباً المهزومين في حروب الحق والباطل، وما انتصر الحق من قبل إلا بقوة إيمان ويقين أصحابه ولو على قلة العدد والعتاد.

وما يهمنا هنا هو السؤال الأول كيف نعرف أننا على الحق ليزداد إيماننا وتطمئن قلوبنا ويرسخ يقيننا حتى نصبح أقوى من الباطل وأشد عزماً وأكثر صبرا؟

ولعل أبرز ما يمكن أن يحكى هنا هو قصة الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقد تخاصما على حق وسفكا من أجله الدماء، ولم يوهن نفوس جنود معاوية في القتال أن علياً في الطرف المقابل، على تقدمه وفضله الذي شهد به معاوية نفسه، ولكنه كان إنما يقاتله في حق ابن عمه ولياً للدم، لا في فضله، وهذا ما أعطاه وجنده العزيمة، ولم يكن جيشه خالياً من الصحابة الذين وجدوا أن حجة معاوية أقرب إلى الحق من مطلب علي رضي الله عنه في الاقتصاص من قتلة عثمان.

وإنما أوهن أصحاب علي أنهم كانوا على غير ذلك، من تردد في الحق الذي اختاروا القتال في سبيله، وميل إلى الصلح، واختلاف كلمتهم، فلم يكن لهم ما لأهل الشام من عزمٍ وثبات، ومعظم أهل الشام وجندها كانوا قريبي عهدٍ بالملك وأحواله والانصياع له، بينما كان جند علي رضي الله عنه من عرب الجزيرة أقرب للحالة القبلية التي لا يطيع فيها الرجل إلا قائد عشيرته، فكان جيش علي متعدد القادة، بينما كان جيش معاوية بقائد واحد. إذا أقرّ الحق لزم الجميع بذل دمائهم في سبيله.

وخلاصة الأمر في معرفة الحق أن علينا تتبعه ما استطعنا إلى ذلك، وأن نجتهد وندأب في سبل معرفته، فإذا صح عندنا ووصلنا إليه، فهو سبيل الاجتهاد لا يتغير ولا يتبدل حتى يثبت بطلانه على نفس شرط رسوخه، ونبذل في سبيله الأموال والدماء حتى نظهره أو نهلك دونه، وغير ذلك من طرق فـإنها تورث التردد والوهن والخسارة والضعف والتفرق والتشتت والتشرد والفناء. فلا يصح أن نقوم كل يوم على رأي ونحمل الناس على البذل في سبيله، لأن الناس لا تبذل أرواحها إلا لمن يمنحها رسوخ الحجة ويقين الرسالة.

وعلى هذا يلقى المؤمن ربه، بأنه اجتهد وسعه وأمضى إلى ذلك جهده حتى يصل إلى غايته أو يحول الموت بينه وبينها.

والسلام …

 

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط