أوراسيا بوتين

غسان الجمعة

439

على الرغم من الانكسارات الحالية لسير العمليات العسكرية الروسية في الشرق الأوكراني، باتت المقاطعات الشرقية ضمن الاتحاد الروسي وأغلق عليها الرئيس بوتين حدوده بالخطوط الحمر من خلال رفع مستويات التعبئة وتحريك القاذفات النووية براً وبحراً في مؤشر واضح لوصول قراءته للموقف إلى مرحلة اللاعودة سياسياً وعسكرياً في مسار الغزو الروسي لأوكرانيا.

بيدرسن يبحث مع أمريكا العملية السياسية في سورية

وفي خطوات سيره نحو استعادة الأمجاد الروسية توجه بوتين إلى نقاط التماس مع الغرب بداية من جورجيا ومروراً بسوريا وليبيا وليس نهاية بأوكرانيا وذلك إما بهدف انتزاع نفوذ أو اكتساب أراضٍ وإثبات قوته قبل كل ذلك على أنقاض العقدة الموروثة من انهيار الاتحاد السوفيتي والتي عايشها شخصياً.

بيلاروسيا وكازخستان وأوزبكستان وغيرها من الدول وبعض الأقاليم التي يطلق عليها الحزام الجيوسياسي الروسي كان من الممكن أن يسقطها بوتين في قبضته خلال العقدين الماضيين لو أن هدفه هو الاستيلاء والتوسع على طريقة السوفيتية أو القيصرية ولكن رؤية بوتين الخاصة لبناء روسيا العظمى تبدأ من فرض الأوراسية التي ينشدها الفيلسوف الروسي دوغين وذلك من خلال تحويل روسيا إلى دولة عظمى بعيداً عن التقليدية السوفيتية التي منحت الجغرافيا السياسية والعسكرية الصلبة دفة القيادة لبناء الأمجاد القيصرية.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هناِ

لذلك يسعى بوتين من خلال حروبه الخاطفة وتدخلاته المدروسة إلى خلق الأوراسية التي تجعل من روسيا دولة عظمى من خلال إحياء عمق ارتباطها الثقافي والاجتماعي والسياسي مع دول أوساط آسيا والشرق الأوربي وهي في جُلها تنتمي للعرق السلافي الذي يسعى بوتين لجعله مشروعاً استراتيجياً متكاملاً بثقافاته المتنوعة و موارده الهائلة و بما يملكه من خزان بشري يجعل منه قطباً عالمياً لا يشترط فيه أن يكون في كتلة واحدة ونظام سياسي واحد و إنما أن يتحقق لهذا المشروع رؤية فريدة بقيادة روسية في النسق العالمي الحالي القائم على ريادة القيم الغربية و فلسفتها المزاجية المنحرفة في بعض أوجهها.

إن الغزو الروسي لأوكرانيا حقق أول أهدافه بالنسبة لبوتين من خلال كسر القطبية الأمريكية الأحادية على الساحة الدولية حسب تعبيره والتي لا يمكن النظر إليها من زاوية عسكرية وسياسية فقط بل هي أوسع في إطارها و مفهومها على صعيد النشاط الحضاري و الإنساني وقد عبر عنها دوغين المعروف بعقل بوتين من خلال فهمه للصراع الحالي “بأن هرمجيدون قد اقتربت ضد من يقلبون أسس القيم الروحية والأخلاقية” في إشارة للثقافة الغربية وهو ما ينقل الصراع إلى مستويات أكثر تعقيداً تتعلق بمفهوم الحريات والتعايش واستقلال الشعوب و مخاطر العولمة وحروب الجيل الخامس.

إن الجيوبولتيكية التي يتحرك وفقها بوتين على المسرح العالمي ليست غاية بحد ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق أوراسيا متكاملة على اختلاف مشاربها وثقافتها تربط الشرق والغرب بتميزها وريادتها وليس بتبعيتها للثقافة الغربية أو تهميشها وعزلها عن التفاعل الحضاري والعالمي الهدف الذي تسعى له اليوم الدول الغربية بكل طاقاتها.

الغرب في مواجهة بوتين يدفع ثمناً لنرجسيته العمياء وممارسة ازدواجية المعايير وبداية شذوذ قيمه وانحلال أخلاقه ورغم ذلك لا يجعل هذا من بوتين ممثلاً لجبهة الخير كما يفترض دوغين ويسوق بوتين وإنما نحن أمام صراع بين طرف نعرفه وآخر لا يؤمن جانبه وكلاهما بدأ صراعاً قد لا يكونان طرفاً منتصراً فيه في ظل مشهد دولي تتقاطع فيه المصالح والغايات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط